تحفيز الذات وقت الضيق

كيف تحفز نفسك عندما تشعر بالضيق في الحياة؟

يمر الإنسان خلال حياته بمراحل متعددة تتقلب بين الفرح والحزن، النشوة والإحباط، القوة والضعف. وعندما يغمر الضيق النفس، تتضاءل الحماسة، ويتسلل الخمول إلى الروح، وتفقد الأشياء بريقها. لكن الطبيعة الإنسانية، وبخاصة حين تُوجَّه بوعي وعقلانية، تملك قدرة استثنائية على الانبعاث من تحت رماد الانكسار. إذ ليس الشعور بالضيق نهاية المطاف، بل هو إشارة داخلية لضرورة التوقف، المراجعة، الترميم، والانطلاق من جديد بطاقة متجددة.

هذا المقال يتناول بتوسّع علمي ونفسي كيف يمكن للإنسان أن يحفز نفسه في لحظات الانهيار العاطفي والنفسي، مستندًا إلى أحدث ما توصلت إليه الدراسات في علم النفس الإيجابي، العلاج السلوكي، علوم الأعصاب، والتنمية الذاتية.

الفهم أولًا: لماذا نشعر بالضيق؟

الشعور بالضيق ليس دائمًا نتيجة ظرف خارجي مباشر، بل قد يكون انعكاسًا لمزيج معقد من الضغوط اليومية، القلق، الصدمات غير المعالجة، أو حتى اضطرابات فسيولوجية مؤثرة على كيمياء الدماغ مثل انخفاض السيروتونين أو الدوبامين.

من منظور علم النفس، الشعور بالضيق قد ينشأ عن:

1. الإجهاد المزمن: التوتر المستمر يؤدي إلى إنهاك الجهاز العصبي المركزي، ما يجعل الاستجابة للمثيرات العادية أكثر سلبية.

2. عدم تحقق الأهداف: الإنسان بطبعه كائن غائيّ يسعى دومًا إلى تحقيق إنجازات، وعندما يتعثر يشعر بعدم الجدوى.

3. الانتقاص من الذات: الحوار الداخلي السلبي والناقد يضخم الشعور بالفشل، ويقلل من تقدير الذات.

4. العزلة الاجتماعية: غياب العلاقات الإنسانية الداعمة يزيد من الإحساس بالوحدة، مما يضاعف الإحساس بالضيق.

إعادة برمجة الدماغ على التحفيز

تُظهر دراسات علم الأعصاب أن الدماغ قابل للتشكيل العصبي (Neuroplasticity)، ما يعني أن تكرار أنماط تفكير إيجابية وسلوكيات معينة يمكن أن يعيد توجيه الدماغ من التفكير السلبي إلى التفكير البنّاء. هناك تمارين ذهنية أثبتت فعاليتها في تحفيز النفس في لحظات الضيق:

1. ممارسة الامتنان الواعي: توثيق ثلاثة أشياء يومية إيجابية، مهما كانت صغيرة، يعيد توجيه التركيز من الألم إلى النعم.

2. التصور الإيجابي: تخيل النفس وهي تتجاوز العقبات بنجاح يعزز الشعور بالكفاءة الذاتية.

3. التنفس العميق والتأمل: تقنيات مثل التأمل التجاوزي (Transcendental Meditation) تساعد في تقليل التوتر وتنشيط مناطق الدماغ المرتبطة بالهدوء والتحفيز.

تبني الطقوس اليومية المنظِّمة للحياة

التنظيم الشخصي لا يعني الجمود، بل إرساء بنية تدعم الاستمرارية النفسية وتخلق الإحساس بالسيطرة. عندما يشعر الإنسان بالضيق، فإن أحد أكثر الأمور المؤلمة هو الإحساس بأن حياته خارجة عن سيطرته. من هنا تأتي أهمية الطقوس اليومية كوسيلة لإعادة السيطرة:

دور العاطفة والعلاقات الإنسانية

من أكبر محفزات النفس أثناء الضيق، العلاقات الصادقة والداعمة. العلاقات ليست مجرد تسلية اجتماعية، بل ضرورة عصبية وعاطفية. الإنسان يتفاعل مع الألم بشكل مختلف تمامًا عندما يشعر بأنه ليس وحيدًا. يتعافى الجرح العاطفي بشكل أسرع حين يكون هناك من يسمع، يحتضن، أو يشارك الألم دون أحكام.

التفاعل الإيجابي مع الآخرين يفرز الأوكسيتوسين (هرمون الترابط)، الذي يعمل كمضاد طبيعي للتوتر والقلق. لهذا السبب، من الضروري البحث عن شبكات دعم سواء من الأصدقاء أو العائلة أو حتى مجموعات الدعم النفسي المجتمعي أو الإلكتروني.

اللغة الداخلية ودورها في التحفيز الذاتي

أكثر ما يحدّ من قدرة الإنسان على النهوض في أوقات الضيق هو الصوت الداخلي السلبي. هذه اللغة الذاتية التي تكرر عبارات مثل: “أنا فاشل”، “لا أستطيع”، “ليس هناك أمل”، يجب إعادة هيكلتها. تشير الأبحاث إلى أن استخدام خطاب داخلي مشجع يعزز الأداء العقلي والجسدي حتى في الرياضات الصعبة.

بدلاً من “أنا لا أستطيع”، يمكن اعتماد عبارات مثل:

• “أنا أواجه صعوبة حاليًا، لكنها مؤقتة.”

• “لدي القدرة على تحسين وضعي خطوة بخطوة.”

• “مررت بتحديات سابقة، وتمكنت من تجاوزها.”

المعنى والغرض من الحياة

أحد أقوى الدوافع التي تدفع الإنسان إلى النهوض من الضيق هو استشعاره لوجود معنى لحياته. وقد أشار الطبيب النفسي “فيكتور فرانكل” في كتابه “الإنسان يبحث عن معنى”، إلى أن الأشخاص الذين لديهم غرض واضح من وجودهم، يستطيعون تحمل أقسى ظروف الحياة دون أن ينكسروا.

وجود الغرض لا يعني بالضرورة هدفًا ضخمًا أو شهرة، بل قد يكون أمرًا بسيطًا مثل تربية طفل، أو تطوير مهارة، أو مساعدة الآخرين. الغرض يعطي للمعاناة بُعدًا مختلفًا ويجعل الألم جزءًا من الرحلة، لا نهايتها.

المرونة النفسية والانضباط الداخلي

التحفيز لا يعني دائمًا الفرح أو الحماسة، بل القدرة على الالتزام بالتحرك حتى في غياب الدافع. هذا ما يسمى بـ”المرونة النفسية” (Psychological Resilience). وهي مهارة تُبنى بالممارسة، من خلال تدريب النفس على تقبل الألم دون الاستسلام له، والسعي للاستمرار رغم العراقيل.

الانضباط لا يقل أهمية، إذ يعمل كجسر بين ما نشعر به وما نحتاج أن نفعله. لا يمكن الاعتماد فقط على الدافع اللحظي، بل يجب تنمية سلوكيات تجعل التحفيز عملية تلقائية ناتجة عن الانضباط، لا عن العاطفة فقط.

اللجوء إلى الفنون والكتابة والتعبير

الفن بمختلف أشكاله – من الرسم والموسيقى إلى الكتابة – يعمل كمنفذ نفسي عميق. تشير الدراسات إلى أن التعبير الإبداعي عن الذات يقلل من مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر)، ويعزز مناعة الجسم.

الكتابة اليومية عن المشاعر، حتى دون نية النشر، تعد شكلًا من أشكال “الكتابة العلاجية” (Therapeutic Writing)، وتُستخدم في العلاج النفسي السريري لتمكين الفرد من فهم ذاته بشكل أعمق، وتفريغ التراكمات العاطفية.

العلاج النفسي والمساعدة المتخصصة

في بعض الحالات، لا يكون التحفيز الذاتي كافيًا، خاصةً عندما يكون الضيق نتيجة لاضطرابات نفسية مثل الاكتئاب السريري أو القلق العام أو اضطراب ما بعد الصدمة. هنا يأتي دور التدخل المهني.

العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، والعلاج بالتقبل والالتزام (ACT)، والعلاج النفسي الديناميكي، هي نماذج فعّالة تساعد في إعادة بناء منظومة الأفكار والمشاعر والسلوك.

العودة للطبيعة والانخراط في البيئة

تشير الأبحاث إلى أن التواجد في الطبيعة، مثل المشي في الغابات أو الجلوس قرب البحر، يقلل من النشاط في القشرة الجبهية المسؤولة عن التفكير السلبي والاجترار الذهني. الطبيعة تمنح نوعًا من “الضبط الحيوي” يعيد للإنسان توازنه البيولوجي والنفسي.

المشي حافي القدمين على التراب أو الرمل (ما يعرف بالتأريض – Grounding) يقلل من التهابات الجسم ويحسن النوم، بحسب دراسات نشرت في مجلات علمية مختصة بالبيولوجيا.

خاتمة تحليلية

في نهاية المطاف، لا يمكن للإنسان أن يمنع نفسه كليًا من الشعور بالضيق، لكن يمكنه أن يحدد كيف يتعامل مع هذا الشعور. التحفيز الذاتي ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية في هذا العصر المتسارع والمشحون بالتحديات. عبر بناء عقلية مرنة، واعية، منظمة، مدعومة بعلاقات إنسانية حقيقية، يمكن تجاوز لحظات الانكسار واستبدالها بلحظات قوة وانبعاث.

ليس الغرض أن لا نسقط، بل أن نسقط ثم نقوم حاملين من السقوط معنى، ومن الألم معرفة، ومن الضعف قدرة جديدة.

المراجع:

1. Frankl, V. (2006). Man’s Search for Meaning. Beacon Press.

2. Seligman, M. E. P. (2011). Flourish: A Visionary New Understanding of Happiness and Well-being. Free Press.